فصل: تفسير الآيات (19- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (19- 26):

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}
{هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} أي في دينه وأمره، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال: اختصموا، نظيرها {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21].
واختلف المفسّرون في هذين الخصمين من هما؟ فروى قيس بن عبّاد أنّ أبا ذرّ الغفاري كان يقسم بالله سبحانه أُنزلت هذه الآية في ستّة نفر من قريش تبادروا يوم بدر: حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث، قال: وقال علي: إنّي لأوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار. وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبيّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنّا بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنّا بنبيّكم وبما أنزل الله سبحانه من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، وكان ذلك خصومتهم في ربّهم.
وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلّهم من أيّ ملّة كانوا.
وقال عكرمة: هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار: خلقني الله سبحانه وتعالى لعقوبته، وقالت الجنّة: خلقني الله عزّ وجلّ لرحمته، فقد قصّ الله عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه الله بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال: حدَّثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرَّحْمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا: حدَّثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال: أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تحاجّت الجنة والنار فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبّرين المتجبّرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله سبحانه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحد منكما ملؤها، فأما النار فإنّهم يُلقون فيها وتقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحداً. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً».
ثم بيّن مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ}.
قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس من نار، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّاً منه.
{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} الماء الحار.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان» {يُصْهَرُ} يذاب، يقال: صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها، أصهرها صهراً، قال الشاعر:
تروي لقىً ألقى في صفصف ** تصهره الشمس ولا ينصهر

ومعنى الآية: يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط.
{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ} سياط {مِنْ حَدِيدٍ} واحدتها مقمعة، سمّيت بذلك لأنّها يُقمع بها المضروب أي يذلّل.
{كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} ردّوا إليها.
روى الأعمش عن أبي ظبيان قال: ذُكر أنّهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي مَن فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزّان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي المحرق مثل الأليم والوجيع، والذوق: حاسة يحصل منها إدراك الطعم، وهو ها هنا توسّع، والمراد به إدراكهم الآلام.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وهي جمع سوار {وَلُؤْلُؤاً}.
قرأ عاصم وأهل المدينة ها هنا وفي سورة الملائكة: ولؤلؤاً بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤاً، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف ها هنا.
وقرأ الباقون بالخفض عطفاً على الذهب، ثمَّ اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أُثبتت الألف فيه كما أُثبتت في قالوا وكانوا، وقال الكسائي: أثبتوها فيه للهمزة لأنَّ الهمزة حرف من الحروف، وأمّا يعقوب فإنّه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعاً إلى المصحف؛ لأنّه كُتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (*) وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول} وهو شهادة أن لا إله إلاّ الله، وقال ابن زيد: لا إله إلاّ الله والله أكبر والحمد لله، نظيرها قوله سبحانه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} إلى دين الله.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم، ومعنى الآية: وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ، نظيرها قوله: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] وقيل: لفظه مستقبل، ومعناه الماضي، أي: وصدّوا عن سبيل الله {والمسجد} يعني عن المسجد {الحرام الذي جَعَلْنَاهُ} خلقناه وبنيناه {لِلنَّاسِ} كلّهم لم نخصّ منهم بعضاً دون بعض {سَوَآءً العاكف} المقيم {فِيهِ والباد} الطاري المنتاب إليه من غيره.
وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح: سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين.
وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره. وتمام الكلام عند قوله: {لِلنَّاسِ}.
واختلف العلماء في معنى الآية: فقال قوم: سواء العاكف فيه والباد في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ الله الواجب عليهما فيه، وإليه ذهب مجاهد.
وقال آخرون: هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم.
قال عبد الله بن عمر: سواء أكلت محرماً أو كراء دار مكة.
وقال عبد الرَّحْمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل، ففشا فيهم السرق، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل باباً فأرسل إليه عمر: اتخذت باباً من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد}.
قال: البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أُحد إلاّ أن يكون سبق إلى منزل، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل، والقول الأول أقرب إلى الصواب.
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال: حدَّثنا صفوان بن الحسين قال: حدَّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة، وكان يرخّص فيه، وكنت لا أرخّص فيه، فذكر الشافعي حديثاً وسكت، وأخذت أنا في الباب، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية: مرد كما لاني هست قرية بمرو، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه، فقال لي: أتناظر؟ قلتُ: وللمناظرة جئت، فقال: قال الله سبحانه وتعالى {فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها.؟
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع»؟نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي: اشترى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه دار السجن من مالك أو غير مالك؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت.
{وَمَن يُرِدْ فِيهِ} أي في المسجد الحرام {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يعني إلحاداً بظلم وهو الميل إلى الظلم، والباء فيه زائدة كقوله: تنبت بالدهن أي تنبت الدهن.
قال الفرّاء: وسمعت أعرابياً من ربيعة وسألته عن شيء فقال: أرجو بذلك يريد أرجو ذلك.
وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره ** وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ** بين المراجل والصريح الأجرد

بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ** بما لاقت لبون بني زياد

واختلفوا في معنى الآية، فقال مجاهد وقتادة {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى.
وقال آخرون: هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه.
قال ابن مسعود: ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه، ولو أنّ رجلاً بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلاً بمكّة، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلاّ أذاقه الله العذاب الأليم.
وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد.
أخبرنا أحمد بن أُبي قال: أخبرنا المغيرة بن عمرو قال: حدَّثنا المفضل بن محمد قال: حدَّثنا محمد بن يوسف قال: حدَّثنا أبو قرّة قال: ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال: تُضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات.
ابن جريج: هو استحلال الحرام متعمّداً، عن حبيب بن أبي ثابت: احتكار الطعام بمكة، بعضهم: هو كل شيء كان منهيّاً عنه من القول والفعل حتى قول القائل: لا والله، وبلى والله.
وروى شعبة: عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كّنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلاّ والله وبلى والله.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا} وطّأنا. قال ابن عباس: جعلنا، الحسن: أنزلنا، مقاتل بن سليمان: دللناه عليه، ابن حبان: هيأنا، نظيره {تُبَوِّئُ المؤمنين} [آل عمران: 121] {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض} [الأعراف: 74] وقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58]. {لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره، وأراد بالبيت الكعبة.
{أَن لاَّ تُشْرِكْ} يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك {بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين} يعني المصلّين {والركع السجود}.

.تفسير الآيات (27- 37):

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
{وَأَذِّن} يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضاً أن أذّنْ أي أعلِمْ ونادِ في الناس {بالحج}.
فقال إبراهيم: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعليّ البلاغ، فقام إبراهيم على المقام وقيل: على جبل أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتاً فحجّوه، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة، فأجابه: لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن عباس: عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع.
{يَأْتُوكَ رِجَالاً} مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام.
{وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} أي وركبانا، والضامر البعير المهزول، وإنما جمع {يَأْتِينَ} لمكان كلّ، أراد النوق {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} طريق بعيد.
سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول: سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن ياسين القاضي يقول: رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها، فتقدّمت إليه وجعلت أُسائله فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خراسان قال: في أي ناحية تكون خراسان؟ كأنّه جهلها؟ قلت: ناحية من نواحي المشرق، فقال: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين وثلاثة أشهر، قال: أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب، فقلت: هذا والله الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول:
زُر مَن هويت وإنْ شطّت بك الدار ** وحال من دونه حجب وأستارُ

لا يمنعك بُعدٌ من زيارته ** إنّ المحبّ لمن يهواه زَوارُ

{لِّيَشْهَدُواْ} ليحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} يعني التجارة عن سعيد بن جبير، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال: هي الأسواق.
مجاهد: التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة.
سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر: العفو والمغفرة.
{وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين، والمعدودات أيام التشريق، وإنّما قيل لها معدودات لأنّها قليلة، وقيل للعشر: معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها.
وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق.
محمد بن كعب: المعدودات والمعلومات واحدة.
{على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم.
{فَكُلُواْ مِنْهَا} أمر إباحة وليس بواجب.
قال المفسرون: وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً.
{وَأَطْعِمُواْ البآئس} يعني الزمِن {الفقير} الذي لا شيء له {ثُمَّ لْيَقْضُواْ} واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقاً بين ثم والواو والفاء لأن ثمّ مفضول من الكلام، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر {تَفَثَهُمْ} والتفث: مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس.
وقال القرظي ومجاهد: هو مناسك الحج واخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار.
عكرمة: التفث: الشعر والظفر.
الوالبي عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك! وأقذرك! قال أمية بن الصلت:
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثاً ** وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا

{وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} قال مجاهد: نذر الحج والهدي وما ينذر الانسان من شيء يكون في الحج.
{وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمّي عتيقاً لأنّ الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار قطّ، ولم يسلّط عليه إلاّ من يعظّمه ويحترمه.
قال سعيد بن جبير: أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا: إنّ لهذا البيت ربّاً ما قصده قاصد بسوء إلاّ حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء.
قال: فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعاً فأُلبست، وكان أوّل ما أُلبست، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم، وكانت خيله جياداً فسميّت جياد لخيل تبّع، وسميّت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة.
وقال سفيان بن عيينة: سمّي بذلك لأنه لم يُملك قط، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال: إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء.
ابن زيد: لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس، يقال: سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم، وقيل: لأنه كريم على الله سبحانه، يقول العرب: فرس عتيق.
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} فيجتنب معاصيه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}.
قال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل: هي المناسك.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} أن تأكلوها إذا ذكّيتموها {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} في القرآن وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} [المائدة: 3] الآية، وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وقيل: وأُحلّت لكم الأنعام في حال إحرامكم إلاّ ما يتلى عليكم من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام.
{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس.
{واجتنبوا قَوْلَ الزور} يعني الكذب والبهتان.
قال أيمن بن حريم: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله، ثمَّ قرأ هذه الآية».
وقال بعضهم: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
{حُنَفَآءَ} مستقيمين مخلصين {لِلَّهِ} وقيل: حجاجاً غير مشركين به {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} أي سقط إلى الأرض {فَتَخْطَفُهُ الطير} والخطف والاختطاف تناول الشيء بسُرعة، وقرأ أهل المدينة فتخَطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخَطَّفه فأُدغم، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} [الصافات: 10].
{أَوْ تَهْوِي} تميل وتذهب {بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد.
قال أهل المعاني: إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة.
وقال الحسن: شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أُنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها.
{ذلك} الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله {مِن تَقْوَى القلوب} هذا معنى الآية ونظمها: وشعائر الله: الهدي والبُدن، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها.
{لَكُمْ فِيهَا} أي في الهدايا {مَنَافِعُ} قيل: أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هدياً ويشعرها ويقلدّها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها.
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو أن يسمّيها هدياً ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، وقيل: معناه: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إنجابها وتسميتها هدياً بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها، إلى أجل مسمّى يعني إلى أن تُنحر، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.
وقال بعضهم: أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة، ومعنى الآية: لكم فيها منافع بالتجارة والأسواق إلى أجل مسمّى وهو الخروج من مكة، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس.
وقال بعضهم: لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج.
{ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها، نظيرها قوله سبحانه {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] أي الحرم كلّه، وقال الذين قالوا: عنى بالشعائر المناسك، معنى الآية: ثم محلّ الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جَعَلْنَا مَنسَكاً} اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحاً موضع قربان، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين.
{لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} عند ذبحها ونحرها، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنَّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم.
{فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ المخبتين} قال ابن عباس وقتادة: المتواضعين، مجاهد: المطمئنّين إلى الله سبحانه، الأخفش: الخاشعين، ابن جرير: الخاضعين، عمرو بن أوس: هم الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمي الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والبدن} أي الإبل العظام الضخام الأجسام، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير: البدن لضخمه، وقد بدُن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم، فأما إذا أشفى واسترخى قيل: بدّن تبديناً.
وقال عطاء والسدّي: البدن: الإبل والبقر.
{جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} أي أعلام دينه إذا أُشعر {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} النفع في الدنيا، والأجر في العقبى {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} عند نحرها، قال ابن عباس: هو أن تقول: الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر، اللهمّ منك ولك.
{صَوَآفَّ} أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك.
روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال: رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال: صوافّ كما قال الله سبحانه، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.
وقال مجاهد: الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك.
وقرأ ابن مسعود: صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة، وكانت على ثلاث وتنحر، وهو مثل صواف.
وقرأ أُبيّ: صوافي وهكذا أيضاً مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون.
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض.
وقال ابن زيد: فإذا ماتت، وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله.
{فَكُلُواْ مِنْهَا} أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] وقوله سبحانه وتعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10].
{وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} اختلفوا في معناهما، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ القانع الذي يقنع بما أُعطي، ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعترّ: الذي يمرّ بك ويتعّرض لك ولا يسأل.
عكرمة وابن ميثم وقتادة: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: السائل الذي يعتريك ويسألك، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس.
حصيف عن مجاهد، القانع: أهل مكة وجارك وإن كان غنّياً، والمعتّر الذي يعتريك ويأتيك فيسألك، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال.
سعيد بن جبير والكلبي: القانع: الذي يسألك، والمعترّ: الذي يتعرّض لك ويريك نفسه ولا يسألك، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ** مفاقره أعفّ من القنوع

وقال لبيد:
واعطاني المولى على حين فقره ** إذا قال أبصر خلّتي وقنوعي

وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف ويسأل، والمعترّ: الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن.
ابن أبي نجيح عن مجاهد: القانع: الطامع، والمعتر: من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير.
ابن زيد: القانع: المسكين، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم.
وقرأ الحسن: والمعتري وهو مثل المعتر، يقال: عراه واعتراه إذا أتاه طالباً معروفه.
{كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه {لَن يَنَالَ الله} أي لن يصل إلى الله {لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا}.
{ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} أي النيّة وإلاخلاص وما أُريد به وجه الله عزّ وجلّ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء، غيره: بالياء.
{كذلك} هكذا {سَخَّرَهَا} يعني البدن {لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.